بسم الله، الرحمانُ، وهو، سبحانه، الرحيمُ.
هل فضول النحو رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه؟
الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام وجعلنا من أمة خير الأنام، محمد، عليه الصلاة والسلام، والحمد لله الذي حبب إلينا اللغة العربية وجعلنا من دعاتها المخلصين الذّابين عنها رغم قلة زادنا وخفوت صوتنا وعدم اكتراث مستمعينا.
ثم أما بعد، هذه أفكار أولية وخواطر تَقْدُمية أحببت تسجيلها قبل أن تفر من بالي والأفكار، أو الخواطر عموما، شديدة التّفلُّت من الذهن إن لم نقيدها بالكتابة أو نسجلها بالحكاية.
لقد تبين لي، بعد قضاء طرف من عمري في دراسة النحو العربي وقراءة الكثير من كتبه، مصادر ومراجع، والاطلاع على مدارسه ومذاهبه ونظرياته وعلمائه وخلافاتهم ومناظراتهم ومشاجراتهم ومشاحناتهم وعداواتهم ومكائدهم لبعضهم حتى مات بعضهم كمدا، قلت في نفسي:" لعل الفضول من النحو إنما هو رجس من عمل الشيطان قد يصدق فيه قول الله تعالى قياسا على الخمر والميسر وغيرهما من الموبقات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ غ– فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(91)}[المائدة]، وخطر لي الإكثار من الترحم على ابن مضاء القرطبي، رحمه الله تعالى، وموقفه من علل النحو ونظرية العامل وغيرهما في "الرد على النحاة" مما يمكن أن يوصف بأنه ترف نحوي [فكري] قد عقَّد النحو وجعله كالطِّلَّسمات الغامضة التي لا يمكن فك "شفرتها" [؟!!!] إلا من قبل أصحابها فلا عجب إن استعصى على دارسيه، المتخصصين فيه فضلا عن المبتدئين، فنفر الناس منه وتخوفوا الخوض فيه لما فيه من تشعبات وتفاصيل تُضِلُّ الدارس ولا تهديه.
لم يكن ابن مضاء، رحمه الله تعالى، الوحيد الذي نقد تعقيدات النحو، بل وافقه أبو الوليد ابن رشد، في كتابه "الضروري في صناعة النحو"، هذا في العصر القديم، أما في الحديث فقد كثر نقد النحاة بما لا مكنني حصره أو ذكره هنا، بيد أن الجدير بالذكر في هذا السياق ما كتبه الدكتور أحمد درويش في سلسلة مقالاته بعنوان:"إنقاذ العربية من أيدي النُّحاة" ويبدو أن الأستاذ الفاضل قد عانى من تعنت النحاة ما جعله يستصرخ العلماء بضرورة إنقاذ اللغة من أيديهم، من نظرياتهم التي قيدت النحو وحرمته من الانطلاق بعفويته وسجيته و "سذاجته" كما كان في بداية أمره سهلا بسيطا في متناول شاديه وقريبا من طالبيه وليس أدل على هذه البساطة وتلك السهولة ما جعل الأعاجم يتعلمونه ويبرزون ويصيرون أئمة فيه أكثر مما برز العرب.
هي، والله، لمفارقة عجيبة جدا أن أكثر أئمة النحو العربي البارزين هم من الأعاجم ولعل ما زاد الطين بلة والمصيبة خلة لما أقحم المنطق، أوالفلسفة، اليوناني في النحو العربي منذ عصر الرُّماني المعتزلي، وهذه ظاهرة أخرى يجب التنبه لها وهي أن أكثر النحاة كانوا من المعتزلة، فلا غرو أن كثر في النحو الفضول والفذلكة، أو الكذلكة، الفكرية ولم يعد النحو تلك الوسيلة السهلة لتعلم ما يقوِّم اللسان من لحنه والقلم من أوده.
ونحن اليوم، نجد نفور الطلبة من النحو العربي، حتى في أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات "العربية"، رغم رغبتهم في تعلمه إن وجدوا من يسهِّله لهم أو يعينهم عليه لما يجدونه في نفوسهم من رهبة منه ونفور كأنه العقبة الكأداء التي يجب تجنبها أو الالتفاف حولها في تعلم العربية سليمة؛ رغم ما في هذا الادعاء من تناقض ظاهر إذ لا سبيل إلى العربية إلا من طريق "النحو العربي" بعلميه : قواعد النحو والصرف، وتعلم الصرف يجب أن يكون أسبق من تلعم القواعد النحو؛ ولذا كانت جهود العلماء الأذكياء في تبسيط النحو وتحديث أمثلته من أبرك الجهود، ولا عجب أيضا إن عُدَّت اللغة العربية من أصعب لغات العالم وهي في المرتبة الثالثة بين عشر لغات هي الصعبة على الإطلاق.
هذا، وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى...